تخيل أن قميصك اليومي يُشعرك بوخز السكاكين على جلدك، وصوت غسّالة الصحون يشبه انفجارًا في أذنيك، ورفرفة ستارة نافذتك تُشعرك بالدوار! هذا ليس مشهدًا من فيلم خيال علمي، بل واقع يعيشه العديد من الأشخاص الذين يعانون من “اضطراب التكامل الحسي”، إذ أن هذا الاضطراب العصبي يجعل المحفزات الحسية العادية تبدو مزعجة للغاية. تابع قراءة هذه المقالة لتعرف أكثر عن هذا الاضطراب وما هي أسبابه وأعراضه وطرق العلاج.
ماهو التكامل الحسي؟

ما هو التكامل الحسي
التكامل الحسي أو يسمى اضطراب المعالجة الحسية (SPD) هو حالة يواجه فيها الدماغ صعوبة في تنظيم وفهم المعلومات الحسية الواردة من البيئة، مثل: الأصوات، والروائح، والمشاهد، والملمس، والطعم، وحتى الحركة، ونتيجةً لذلك، قد يكون الشخص شديد الحساسية أو قليل الحساسية تجاه هذه المحفزات.
إذ إنه بينما يستطيع معظم الناس تجاهل الأصوات أو الروائح المزعجة والتكيف معها، فإن من يعانون من اضطراب المعالجة الحسية قد يجدونها مرهقة ومربكة بشكل مزمن، وقد تؤثر سلبًا على حياتهم اليومية، فقد يشعر أحدهم بالانزعاج الشديد من صوت بسيط كصرير إطار سيارة، إلى حد أنه قد يضطر لاستخدام سماعات رأس أو يلجأ لحركات مهدئة مثل: التأرجح أو الطنين لتخفيف التوتر.
يُشخّص اضطراب المعالجة الحسية غالبًا لدى الأطفال، خاصةً المصابين باضطرابات عصبية مثل: اضطراب طيف التوحد أو اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD)، ولكنه قد يظهر أيضًا لدى البالغين، بل ويمكن أن يصيب أشخاصًا لا يعانون من أي حالة أخرى مصاحبة.
وعلى الرغم من أن اضطراب المعالجة الحسية ليس معترفًا به رسميًا كتشخيص طبي مستقل، إلا أن الوعي به مهم لفهم سلوكيات بعض الأفراد واحتياجاتهم، مما يساعد في تقديم الدعم المناسب لهم. ويُقدّر الباحثون أن نحو 1 إلى 3 من كل 20 شخصًا يعانون من هذا الاضطراب، وترتفع النسبة بين المصابين باضطرابات عصبية.
أنواع اضطراب التكامل الحسي
تتنوع اضطرابات المعالجة الحسية إلى عدة أشكال، من أبرزها:
- فرط الاستجابة الحسية (SOR): يكون الفرد في هذا النوع مفرط الحساسية تجاه المحفزات الحسية، فيُظهر استجابات مبالغًا فيها أو سريعة أو تدوم لفترة أطول من المعتاد، حتى تجاه مؤثرات يتحملها الآخرون بسهولة.
- نقص الاستجابة الحسية (SUR): يعاني الشخص هنا من ضعف في الاستجابة للمحفزات الحسية، وقد لا يلاحظها أو يستجيب لها ببطء، مقارنةً بالأشخاص الطبيعيين، ويحتاج إلى قدر أكبر من التحفيز لإثارة انتباهه.
- الرغبة الحسية (SC): يتميز هذا النوع بسعي دائم وراء التحفيز الحسي، إذ يبحث الشخص عن الإثارة الحسية بشكل مفرط، ولكن رغم ذلك، لا تشبع هذه المؤثرات حاجته، وقد تؤدي إلى سلوكيات فوضوية.
- اضطراب التمييز الحسي: يواجه الشخص صعوبة في تفسير التفاصيل الدقيقة للمحفزات الحسية، ويشمل هذا النوع فروعًا متعددة، مثل: اضطراب التمييز السمعي الذي يجعل فهم الأصوات أمرًا معقدًا.
- اضطراب الإدراك الوضعي: يواجه المصاب صعوبة في الشعور بوضعية جسمه في الفضاء، مما يُؤثر على توازنه وثباته أثناء الحركة أو حتى في وضع الراحة.
- عسر التنسيق الحركي: يؤدي هذا الاضطراب إلى مشاكل في الحركة والتناسق الجسدي، وقد يؤثر على المهارات الحركية الكبرى (مثل: الجري والقفز) أو الدقيقة (مثل: الكتابة أو ربط الحذاء).
أسباب التكامل الحسي
لا يزال السبب الدقيق لاضطراب المعالجة الحسية غير معروف، ولكن هناك دلائل تشير إلى تداخل عوامل وراثية وبيئية، إذ أظهرت دراسات على التوائم أن فرط الحساسية تجاه المحفزات قد يكون له أساس وراثي، كما أظهرت أبحاث أخرى أن الأطفال المصابين بهذا الاضطراب يُظهرون نشاطًا دماغيًا غير طبيعي عند التعرض لمحفزات حسية متعددة، مع استمرار الاستجابة القوية رغم التكرار.
كما توجد علاقة واضحة أيضًا بين اضطراب المعالجة الحسية وبعض الحالات العصبية والنفسية، مثل:
- اضطراب طيف التوحد (ASD).
- اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD).
- اضطراب ثنائي القطب.
- تأخر النمو.
- اضطراب اختلال المزاج التخريبي (DMDD).
- الوسواس القهري (OCD).
- الفصام.
- اضطرابات التعلم المحددة.
ومع ذلك، يمكن أن يظهر هذا الاضطراب بشكل مستقل دون وجود أي من هذه الحالات.
أعراض اضطراب التكامل الحسي
تتنوع أعراض اضطراب التكامل الحسي من شخص لآخر، وقد تؤثر على حاسة واحدة فقط (كالسمع أو اللمس أو التذوق) أو تشمل عدة حواس معًا، وتظهر الأعراض على شكل استجابات غير متناسبة للمحفزات، سواء كانت مفرطة أو ضعيفة، مما يؤثر على التفاعل مع البيئة.
تشمل أبرز الأعراض ما يلي:
1. فرط الاستجابة الحسية (الحساسية الزائدة)
- الانزعاج الشديد من الأصوات العالية أو الأضواء الساطعة.
- الشعور بالألم أو عدم الراحة من اللمسات الخفيفة أو الملابس ذات الأنسجة العادية.
- نفور واضح من بعض الروائح أو الأطعمة أو الملامس.
- ردود فعل قوية تجاه الحركات المفاجئة أو المحفزات الحسية البسيطة.
- تجنب المواقف الاجتماعية أو البيئات المزدحمة بسبب التحفيز الزائد.
- شعور مستمر بعدم التوازن أو الارتباك الحركي.
- صعوبة في التكيف مع التغيرات أو التحولات المفاجئة في الروتين أو المكان.
2. نقص الاستجابة الحسية (البحث عن التحفيز)
- قلة الانتباه أو التجاوب مع الأصوات، واللمسات، أو الإشارات البصرية.
- الانجذاب إلى الأنشطة الحركية المكثفة مثل: القفز، والتأرجح، أو الدوران.
- الميل إلى لمس الأشياء باستمرار أو البحث عن المثيرات البصرية مثل: الأضواء أو الشاشات.
- مضغ الأشياء بشكل متكرر (مثل: الأقلام أو الملابس).
- ضعف في إدراك الحالة الجسدية، كعدم ملاحظة الجروح أو التعرّق أو الاتساخ.
- صعوبة في تنظيم النوم أو الراحة.
3. مظاهر أخرى
- ارتباك حركي واصطدام متكرر بالأشياء أو الأشخاص.
- ضعف في المهارات الحركية الدقيقة (مثل: الكتابة أو استخدام الأدوات).
- صعوبة في احترام المساحة الشخصية أو تفسير الإشارات الاجتماعية.
- اضطرابات سلوكية أو عاطفية مثل: القلق، والتوتر، أو الانسحاب الاجتماعي.
رغم أن الكثير من الأشخاص قد يمرون بمثل هذه التجارب من وقت لآخر، فإن اضطراب التكامل الحسي يُشخّص عندما تكون هذه الأعراض شديدة ومستمرة بما يكفي للتأثير على الحياة اليومية، سواء في العمل أو الدراسة أو العلاقات.
الفرق بين التوحد واضطراب التكامل الحسي
رغم أن اضطرابات المعالجة أو التكامل الحسي تُعد شائعة بين المصابين بالتوحد، إلا أنها ليست حصرية لهذا الاضطراب، بمعنى آخر، ليس كل من يعاني من مشكلات حسية يكون بالضرورة مصابًا بالتوحد، وإن كانت الحساسيات الحسية جزءًا من المعايير التشخيصية للتوحد.
عند المصابين بالتوحد، يُظهر الدماغ نمطًا مختلفًا في استقبال وتنظيم المحفزات الحسية، مما قد يؤدي إلى ردود فعل متفاوتة تبعًا للموقف والبيئة، ويجعل من الصعب أحيانًا التفاعل بطريقة اجتماعية معتادة، وقد تُلاحظ هذه الفروق في سلوكيات متكررة أو استجابات حسية غير معتادة.
أنماط استجابة الحواس عند المصابين بالتوحد أو اضطراب المعالجة الحسية:
- فرط الاستجابة: كأن يبالغ الشخص في رد فعله تجاه صوت عالٍ أو ملمس معيّن.
- ضعف الاستجابة: مثل تجاهل الأصوات أو المحفزات، أو عدم التفاعل مع المنبهات الحسية.
- البحث الحسي: إذ يسعى الشخص للحصول على تحفيز حسي دائم، مثل: لمس الأشياء أو إصدار الأصوات، وقد لا يميز المساحة الشخصية.
من يتجنبون المحفزات الحسية قد يُظهرون حساسية مفرطة للضوء أو الصوت أو اللمس، مما يؤدي إلى انسحابهم من مواقف معينة أو اختيارهم أطعمة محددة، أما من يسعون إليها فقد يتصرفون بطرق غير معتادة مثل: التلامس المفرط أو الحركة المستمرة.
وعندما يتعرض الشخص المصاب بالتوحد لتحفيز حسي زائد، فقد تظهر عليه علامات الإجهاد الشديد، كفرط التركيز أو سلوكيات تهدئة ذاتية مثل: رفرفة اليدين أو إصدار أصوات، وفي الحالات القصوى، قد تظهر عليه أعراض تُشبه نوبات الهلع من شدة الانزعاج الحسي.
قد يشترك التوحد واضطراب المعالجة الحسية في بعض السمات، إلا أن كل حالة لها خصائصها وتشخيصها الخاص، ولا يعني وجود مشكلات حسية بالضرورة وجود توحد.
هل يؤثر التكامل الحسي على التحصيل الدراسي؟
نعم، يمكن أن تؤثر صعوبات التكامل الحسي بشكل ملحوظ على آداء الطفل الدراسي وسلوكه داخل الصف، فالتكامل الحسي هو الطريقة التي ينظم بها الدماغ المعلومات القادمة من الحواس، مثل: الصوت، واللمس، والحركة والضوء، ويُعد عنصرًا أساسيًا في التعلم والتركيز والمشاركة داخل البيئة التعليمية.
عندما يواجه الطفل صعوبة في معالجة هذه المدخلات الحسية، قد تظهر عليه مشكلات متعددة مثل: تشتت الانتباه، وعدم القدرة على الجلوس بهدوء، وصعوبة في التفاعل مع المعلمين والزملاء، أو حتى ضعف في تذكر المعلومات وتنفيذ المهام الأكاديمية.
كيف يؤثر ذلك على التحصيل الدراسي؟
أصوات الفصل العالية، والأضواء الساطعة، أو حتى الملابس غير المريحة قد تشتت الطفل الحساس، مما يجعله غير قادر على التركيز أو متابعة الدروس.
القلق الناتج عن الحساسية الزائدة قد يدفع الطفل إلى الانطواء أو تجنّب التفاعل مع البيئة الصفية.
عند انشغال الدماغ بالتعامل مع التحفيز الحسي الزائد، تقل قدرته على معالجة المعلومات الجديدة وحفظها.
تؤثر مشاكل التكامل الحسي على المهارات الدقيقة مثل؛ الكتابة اليدوية، أو المهارات الكبرى كاللعب والمشاركة في الأنشطة الرياضية.
- التنظيم العاطفي والسلوكي:
قد يُظهر الطفل نوبات غضب، وقلق، أو سلوكيات اندفاعية نتيجة الصعوبة في ضبط مشاعره داخل المدرسة.
أمثلة على تباين الاستجابة الحسية
- بعض الأطفال يكونون شديدي الحساسية، فيتأثرون بشكل مفرط بالأصوات أو الأضواء أو الروائح، مما يجعلهم يشعرون بالارتباك والانزعاج داخل الصف.
- بينما يُظهر آخرون نقصًا في الحساسية، فيسعون للحصول على مزيد من التحفيز من خلال التململ المستمر، والقفز، أو حتى الاصطدام بالآخرين، وقد يبدو سلوكهم غير منضبط.
- الأطفال المصابون باضطراب طيف التوحد (ASD):
يُعاني الكثير منهم من اختلافات واضحة في المعالجة الحسية، تظهر إما بفرط الحساسية أو بنقصها، مما يؤثر بشكل مباشر على قدرتهم على التعلم والتفاعل في البيئة الصفية.
علاج اضطراب التكامل الحسي
رغم عدم وجود علاج نهائي لاضطراب المعالجة الحسية، إلا أن التدخل المبكر وجلسات العلاج المناسبة يمكن أن تُحدث فرقًا كبيرًا في تحسين نوعية حياة الطفل أو البالغ.
العلاج المهني
يُعد العلاج المهني من الركائز الأساسية في التعامل مع اضطراب المعالجة الحسية، ويُقدم من قبل متخصصين مدربين لمساعدة الأطفال والبالغين على تطوير مهاراتهم وتجاوز التحديات اليومية، يشمل العلاج ما يلي:
- تحسين المهارات الحركية الدقيقة مثل: استخدام المقص أو الكتابة اليدوية.
- تطوير المهارات الحركية الكبرى مثل: ركوب الدراجة أو صعود السلالم.
- دعم مهارات الرعاية الذاتية مثل: ارتداء الملابس واستخدام الأدوات اليومية.
- تعزيز المهارات الاجتماعية والتنظيم السلوكي.
- التأقلم مع المحفزات الحسية، وتخفيف الاستجابات المفرطة أو الضعيفة تجاهها.
علاج التكامل الحسي (SI)
يُعد هذا النوع من العلاج الأكثر شيوعًا وفعالية، وهو يعتمد على توفير أنشطة حسية ممتعة في بيئة آمنة تحت إشراف معالج، بحيث يتعلم الطفل (أو البالغ) التفاعل مع المدخلات الحسية دون الشعور بالإرهاق، يساعد هذا العلاج على:
- تعزيز التركيز.
- تقليل القلق.
- تحسين الاستجابة للمحفزات اليومية.
- اكتساب مهارات تأقلم تصبح تلقائية بمرور الوقت.
نموذج DIR / وقت اللعب التفاعلي
يعتمد على جلسات لعب منظمة بين الطفل ووالديه، إذ يبدأ الوالدان بمشاركة الطفل في سلوكياته، حتى وإن بدت غير نمطية، ثم يتدرجون في إدخال تحديات محفزة تساعد الطفل على:
- التواصل الفعال.
- التفكير المشترك.
- الدخول في “عالم مشترك” مع الآخرين.
هذا النهج العلاجي العاطفي والتنموي يعزز التفاعل الطبيعي والمهارات الاجتماعية.
نصائح لتحسين التكامل الحسي

نصائح لتحسين التكامل الحسي
النظام الغذائي الحسي (Sensory Diet)
ليس نظامًا غذائيًا بالمعنى الغذائي، بل هو خطة من الأنشطة الحسية اليومية، تُنفّذ في المنزل أو المدرسة لتساعد الطفل على تنظيم حواسه والبقاء في حالة تركيز واستقرار، قد تشمل ما يلي:
- المشي لفترات منتظمة خلال اليوم.
- التأرجح مرتين يوميًا.
- استخدام سماعات رأس لعزل الضوضاء
- استخدام ألعاب التململ أو الأربطة المطاطية على الكراسي.
دمج الأنشطة الحسية في الروتين اليومي
يوصي المعالجون المهنيون بدمج أنشطة وأدوات حسية مناسبة ضمن الروتين اليومي للطفل، في المنزل أو الفصل الدراسي، مما يساعد على تحسين تركيزه وسلوكه.
الدعم العائلي والنفسي
قد يشعر أولياء الأمور بالإرهاق أو العزلة بسبب صعوبة تقبّل سلوك الطفل اجتماعيًا، من المهم:
- التواصل مع مختصين للحصول على الدعم.
- عدم الانعزال عن المجتمع.
- البحث عن مجموعات دعم للأهالي.
للبالغين
حتى البالغين المصابين باضطراب المعالجة الحسية يمكنهم الاستفادة من العلاج المهني، إذ يساعدهم على ما يلي:
- فهم استجاباتهم الحسية.
- تعديل سلوكهم في مواقف معينة.
- تحسين جودة حياتهم والتفاعل مع البيئة.
الفحص السمعي والمعينات السمعية
إذا كان هناك فقدان سمع مصاحب، يُنصح بإجراء فحوصات سمع واستخدام أجهزة مناسبة للتقليل من العبء الحسي.
اضطراب المعالجة الحسية قد لا يختفي بالكامل، ولكنه يتحسن مع الوقت والعلاج، وقد تعود الأعراض في حالات الضغط النفسي أو التغيرات الكبيرة في الحياة، لذا من الضروري الاستمرار في المراقبة والدعم العلاجي حسب الحاجة.
المصادر:
اترك تعليقاً
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *