خلف أبواب بعض البيوت، تختبئ أكوام من الأغراض التي لا تُستخدم، ولكنها لا تُرمى، أكوام من الصحف القديمة تتحدى الزمن، حقائب بلاستيكية تختنق تحت أثقالها، قطع أثاث مفقودة تحت بحار من المقتنيات، تتراكم الأشياء حتى تغدو الحياة اليومية معطّلة، وتتحول المساحات المألوفة إلى أماكن مزدحمة تفيض بالفوضى، هذه ليست مجرد عادة سيئة أو ميل للتجميع، بل قد تكون علامة على اضطراب نفسي يُعرف بالاكتناز القهري، وهي حالة معقدة تؤثر في التفكير والسلوك، وتنعكس بقوة على الصحة النفسية والجسدية لمن يعاني منها. تابع قراءة هذه المقالة لتعرف أكثر عن هذا الاضطراب وأسبابه وأعراضه وطرق العلاج.
ما هو الاكتناز القهري؟
اضطراب الاكتناز هو حالة نفسية يعاني فيها الشخص من صعوبة مستمرة في التخلص من المقتنيات أو التخلي عنها، بغضّ النظر عن قيمتها الفعلية، وذلك لشعوره الدائم بالحاجة إليها أو خوفه من فقدانها، ويتسبب ذلك في شعور شديد بالضيق عند محاولة التخلص من أي غرض، ما يدفعه إلى جمع وتكديس كميات هائلة من الأشياء، مثل: الصحف، والمجلات، والأدوات المنزلية، والملابس، وأحيانًا الحيوانات، التي قد لا تُعتنى بها بشكل كافي.
ومع مرور الوقت، يؤدي هذا السلوك إلى فوضى كبيرة داخل المنزل، فتُغطى الأسطح مثل: الطاولات، والمواقد، والمكاتب، والسلالم بالأغراض، وتُسد الممرات بأكوام من الأغراض، مما يعيق استخدام المساحات لأغراضها الأساسية، كأن يصعب الطهي في المطبخ أو النوم في غرفة النوم، بل وقد تمتد الفوضى إلى أماكن خارج المنزل كالفناء أو السيارة أو المرآب.

ما هو الاكتناز القهري؟
أنواع الاكتناز القهري
يتخذ اضطراب الاكتناز القهري أشكالًا متعددة تختلف من شخص لآخر، فقد يقتصر لدى البعض على نوع معين من الأغراض، بينما يظهر لدى آخرين بشكل أكثر عمومية ويشمل أشياء متنوعة، ومن أبرز أنواعه ما يلي:
1- اكتناز الأشياء
يُعد الشكل الأكثر شيوعًا، ويتضمن الاحتفاظ بكميات كبيرة من أشياء قد تبدو غير ضرورية أو بلا قيمة حقيقية، مثل:
- الملابس.
- الحلي والإكسسوارات.
- الأدوات المنزلية وأدوات المطبخ.
- الصحف والمجلات والكتب.
- الفواتير والأوراق القديمة.
- الأشياء المكسورة بدافع إصلاحها لاحقًا.
- قطع غيار السيارات.
- القمامة أو المخلفات عديمة الفائدة.
وغالبًا يصعب على الشخص التخلص من هذه الأشياء بسبب ارتباطه العاطفي بها أو اعتقاده بأنها “قد تنفع يومًا ما”، كما يمكن أن تمثل الموروثات من متوفين عبئًا خاصًا بسبب قيمتها العاطفية وارتباطها بالحزن والفقد.
2- اكتناز الحيوانات
يتضمن اقتناء أعداد كبيرة من الحيوانات الأليفة، مثل: القطط أو الكلاب أو الأرانب أو الطيور، بما يفوق قدرة الشخص على رعايتها بشكل سليم.
وقد يؤدي ذلك إلى مشاكل صحية ومعيشية خطيرة، مثل:
- تراكم نفايات الحيوانات وأطعمتها.
- انتشار الطفيليات.
- الإصابة بأمراض حيوانية المنشأ (تنتقل من الحيوانات إلى البشر).
ورغم اعتقاد الشخص أنه يقدم الرعاية، إلا أنه غالبًا يكون غير مدرك للتقصير في العناية الفعلية بالحيوانات.
3- التسوق القهري
يظهر على شكل اندفاع متكرر لشراء أشياء غير ضرورية، غالبًا دون حاجة حقيقية لها، وهذا النوع من الاكتناز يؤدي إلى تكدس الأغراض داخل المنزل، ويُسبب أعباء مالية ومكانية متزايدة.
كل نوع من هذه الأنواع يعكس نمطًا مختلفًا من التفكير والسلوك، ولكنه يشترك في صعوبة التخلص من الأشياء والشعور بالضيق عند محاولة ذلك.
أسباب الاكتناز القهري
لا يزال السبب الدقيق لاضطراب الاكتناز غير معروف تمامًا، ولكن يُعتقد أن هناك عدة عوامل تساهم في تطوره، منها:
- عوامل وراثية وتغيرات في وظائف الدماغ.
- أحداث حياتية مرهقة مثل: الفقد أو الصدمات.
- مشكلات عقلية ومعرفية، تشمل: ضعف اتخاذ القرار، وصعوبة في التخطيط والتنظيم والانتباه والذاكرة.
- الروابط النفسية والعاطفية مع الأغراض، مثل: الإحساس بأن لها قيمة فريدة، أو تمثّل ذكرى عاطفية، أو تُشعر بالأمان.
- الخوف من الندم أو الإحساس بالذنب عند التخلص من الأغراض.
- القلق من عدم العثور على غرض مماثل لاحقًا.
وقد يظهر اضطراب الاكتناز كاضطراب مستقل، أو مرافقًا لحالات نفسية أخرى مثل:
- اضطراب الوسواس القهري (OCD).
- اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية (OCPD).
- اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط (ADHD).
- الاكتئاب.
- الفصام والاضطرابات الذهانية.
- متلازمة برادر-ويلي.
- اضطرابات تعاطي الكحول أو المخدرات.
عوامل الخطر
توجد عدة عوامل قد تزيد من احتمال الإصابة باضطراب الاكتناز، منها:
- وجود تاريخ عائلي أو وراثي للاضطراب.
- التعرّض لإصابة دماغية.
- المرور بتجارب صادمة مثل: الطلاق أو فقدان أحد الأحباء.
- نمط شراء اندفاعي أو الإفراط في الاحتفاظ بأشياء مجانية (كالقسائم والنشرات).
- النشأة في بيئة فوضوية أو محرومة ماديًا أو عاطفيًا.
- العيش بمفردك أو غياب الدعم الاجتماعي.
- وجود صعوبات حركية أو معرفية تُعيق التخلص من الأغراض.
أعراض الاكتناز القهري
تبدأ الأعراض غالبًا في سن المراهقة أو أوائل البلوغ، وتزداد حدتها مع التقدم في العمر، ومن أبرز الأعراض ما يلي:
- جمع كميات كبيرة من الأشياء دون حاجة فعلية لها.
- شعور بالضيق أو القلق عند محاولة التخلص من أي غرض.
- الخوف من فقدان شيء قد يكون “مفيدًا” لاحقًا.
- تراكم الفوضى في المنزل لدرجة تعيق استخدام الغرف.
- صعوبة في اتخاذ القرارات والتنظيم والتخطيط.
- السعي للكمال، والتردد، والتسويف، والتشتت الذهني.
- تجنب استقبال الضيوف، ورفض دخول الآخرين للمنزل.
- توتر العلاقات الاجتماعية أو المهنية بسبب الاكتناز.
- تراكم غير صحي للطعام أو القمامة، مما قد يهدد السلامة والصحة.
- فقدان أشياء مهمة وسط الفوضى، مع انعدام الثقة بمن يحاول الترتيب.
ويُميز اضطراب الاكتناز عن هواية جمع المقتنيات، بأن الأخير يكون منظمًا وموجَّهًا لهدف، بينما يعاني المكتنز من فوضى متزايدة واضطراب وظيفي.
هل الاكتناز القهري نوع من الوسواس القهري؟
رغم أن اضطراب الاكتناز يُصنَّف ضمن طيف اضطرابات الوسواس القهري (OCD) -وهي اضطرابات ترتبط بالقلق- إلا أنه يُعدّ اضطرابًا مستقلاً بذاته.
في النسخ السابقة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية (DSM)، الذي تصدره الجمعية الأمريكية للطب النفسي، كان الاكتناز يُصنَّف كنوع فرعي من الوسواس القهري، ولكن مع مرور الوقت، لاحظ المختصون وجود حالات اكتناز لا تعاني من أعراض الوسواس القهري أو أي اضطرابات عقلية أخرى.
وبناءً على دراسات أعمق، تم الاعتراف بالاكتناز القهري كتشخيص منفصل في الإصدار الخامس من الدليل (DSM-5)، مع الإشارة إلى أنه لا يزال يقع ضمن طيف الوسواس القهري نظراً لبعض أوجه التشابه بينهما.
علاج الاكتناز القهري
قد يتراوح اضطراب الاكتناز في شدّته من خفيف لا يؤثر كثيرًا على الحياة اليومية، إلى شديد يُسبب مشكلات خطيرة تؤثر على الصحة والسلامة والعلاقات الاجتماعية والوظيفية، ومن التحديات الكبيرة في التعامل مع هذا الاضطراب أن المصابين به غالبًا لا يدركون وجود مشكلة، مما يجعل إقناعهم بالعلاج أمرًا صعبًا.
ورغم توفّر وسائل علاجية فعّالة، فإن عددًا كبيرًا من المصابين لا يسعون للعلاج، إما بسبب ضعف البصيرة، أو الشعور بالعار، أو صعوبة الوصول إلى الموارد المناسبة، وغالبًا لا يُطلب العلاج إلا بعد سن الخمسين، عندما يكون الاضطراب قد تفاقم وأثر بوضوح على جودة الحياة.
يتطلب علاج الاكتناز القهري نهجًا متعدد الأبعاد، يشمل التقييم النفسي، والتثقيف، والعلاج السلوكي، وأحيانًا استخدام الأدوية، وغالبًا تكون رحلة العلاج طويلة وتتطلب صبرًا ودعمًا من مختصين في الصحة النفسية.
علاج الاكتناز القهري الدوائي
حتى الآن، لا توجد أدوية معتمدة رسميًا لعلاج اضطراب الاكتناز، ولكن قد تُستخدم بعض مضادات الاكتئاب، مثل: مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية (SSRIs) أو مثبطات السيروتونين والنورإبينفرين، لتخفيف الأعراض، خاصة إذا كان المريض يعاني من حالات نفسية مصاحبة مثل: الوسواس القهري.
تشمل الأدوية التي أظهرت بعض الفوائد المحتملة في دراسات محدودة ما يلي:
- باروكسيتين.
- فينلافاكسين ممتد المفعول.
- أملاح الأمفيتامين.
- ميثيلفينيديت (العادي والممتد المفعول).
- أتوموكسيتين.
نظرًا لمحدودية الأدلة، لا يُنصح باستخدام هذه الأدوية كخيار أول، بل بعد تجربة العلاجات النفسية الفعالة مثل: العلاج السلوكي المعرفي.
العلاج السلوكي المعرفي للاكتناز القهري
العلاج السلوكي المعرفي (CBT) هو العلاج الأكثر فاعلية والأكثر توصية به في حالات الاكتناز القهري، إذ يهدف هذا العلاج إلى تعديل أنماط التفكير والسلوك المرتبطة بجمع الأشياء والاحتفاظ بها.
يتضمن هذا النوع من العلاج ما يلي:
- فهم أسباب الاكتناز والقلق المرتبط بالتخلص من الأشياء.
- تعلم مهارات التنظيم واتخاذ القرار.
- التعرض التدريجي لعملية التخلص من الفوضى وتقليل التوتر الناتج عنها.
- تطوير مهارات مثل: التحقق من الواقع، وحل المشكلات، وإعادة الهيكلة المعرفية.
أظهرت التجارب السريرية أن العلاج السلوكي المعرفي يمكن أن يساعد في تقليل الفوضى وتحسين جودة الحياة، ولكنه لا يُنهي الأعراض تمامًا في جميع الحالات.
العلاج النفسي للاكتناز القهري
يشمل العلاج النفسي للأشخاص المصابين بالاكتناز ما يلي:
- التقييم السريري والفحص الوظيفي لسلوكياتهم.
- التثقيف النفسي لتحسين فهمهم لطبيعة الاضطراب.
- تحديد أهداف علاجية بشكل تعاوني مع المعالج.
- تدريب على مهارات مثل: التنظيم، وحل المشكلات، والتعامل مع المواقف المحفزة للاكتناز.
- التعرض الموجه لتجارب التخلص من الممتلكات غير الضرورية مع دعم اتخاذ القرار.
يساعد هذا النهج على تقليل التعلق العاطفي بالممتلكات، وتعزيز الاستقلالية، وتجاوز الأفكار الخاطئة المتعلقة بفقدان الأشياء.
هل يعود الاكتناز القهري بعد العلاج؟
رغم تحسن بعض المرضى بشكل كبير بعد العلاج، إلا أن اضطراب الاكتناز يُعد حالة مزمنة في كثير من الحالات، وقد تستمر الأعراض أو تعود بدرجات متفاوتة، إذ يعاني العديد من الأشخاص من صعوبات مستمرة في التخلص من الأشياء رغم تلقيهم العلاج، وقد تؤثر هذه الأعراض سلبًا على حياتهم اليومية، مثل: استخدام المساحات الأساسية للمعيشة، والعلاقات الأسرية، والنظافة، والسلامة المنزلية.
يمكن أن يؤدي الاكتناز غير المُعالج إلى مشكلات خطيرة، مثل: مخاطر الحريق، والتعثر، والتعرض لمشكلات قانونية، خاصة في حالات اكتناز الحيوانات، لذلك، من المهم الاستمرار في الدعم والمتابعة النفسية حتى بعد انتهاء العلاج الأساسي، لضمان الحفاظ على التقدم وتقليل الانتكاس.
نصائح للتخلص من الاكتناز القهري
التعامل مع الاكتناز القهري قد يكون صعبًا، ولكن اتخاذ خطوات صغيرة ومنظمة يمكن أن يُحدث فرقًا كبيرًا، إليك بعض النصائح العملية:

نصائح للتخلص من الاكتناز القهري
1- ابدأ بخطوات بسيطة
- ضع أهدافًا صغيرة مثل: التخلص من غرض واحد يوميًا.
- خصص وقتًا محددًا للترتيب، كساعة أسبوعيًا، وحدد مسبقًا أين ستضع الأغراض (تبرع، قمامة…).
- نظّم الترتيب بطريقة ممتعة
2- قلّل من تراكم الأشياء
- أوقف الاشتراكات غير الضرورية
- اتبع قاعدة: “تخلص من أي شيء لم تستخدمه خلال عام”.
- مارس أنشطة بديلة لا تتطلب جمع الممتلكات، مثل: التنزه أو مشاهدة فيلم.
3- حافظ على الحافز
- التقط صور “قبل وبعد” لتلاحظ التقدم.
- ابدأ بالأماكن الأسهل لتنظيفها.
- احتفل بإنجازاتك الصغيرة بمكافآت بسيطة.
- لا تتردد في طلب المساعدة من المقربين أو المختصين.
4- تعامل مع مشاعرك
- تحدث مع من تثق به أو مع جهة داعمة متخصصة.
- جرّب مجموعات دعم الأقران.
- دوّن مشاعرك لتتعرف على المحفزات النفسية.
- خصص وقتًا للاسترخاء وممارسة أنشطة تقلل التوتر دون التعلق بالأشياء.
5- اجعل بيئتك آمنة
- تأكد من أن منزلك خالي من المخاطر كالعوائق أمام المخارج أو التكدس قرب مصادر النار.
6- ساعد من حولك على فهم حالتك
- قد لا يدرك المقربون ما تمر به، مشاركة معلومات موثوقة معهم قد تساهم في بناء دعم أفضل وتفهم أعمق لحالتك.
تذكّر أن الاعتراف بالمشكلة والسعي للتغيير هو بحد ذاته خطوة شجاعة وجديرة بالفخر.
المصادر:
اترك تعليقاً
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *